إن المتطلع إلى أحوال المسلمين اليوم، يرى الفرق الشاسع بين جيلنا والجيل الأول الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه البخاري ومسلم.
وما بلغنا هذه الحالة من التردي إلا بسبب بعدنا عن هدى ربنا جلّ وعلا، ثم بسبب الانحرافات الدينية والأخلاقية والسلوكية في جميع جوانب الحياة، وكان من جملة تلك الانحرافات ما دخل على الأمة من بدع في الاعتقاد الذي هو قوام الأمة وأساس بنائها، فوهن صرحها العظيم، وابتعدت عن الطريق القويم، وهل ننتظر من شجر الغرقد أن يثمر الزيتون؟
وإذا أردنا أن نضع يدنا على الجرح ونعرف كيف تسللت البدع الاعتقادية، فما علينا إلا أن نستعرض التاريخ الإسلامي، والذي يبدأ في العهد النبوي، فنتأمل حال ذلك الجيل الفريد الذي رباه النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان خير هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفًا، لقد تلقوا العقيدة من النبي - صلى الله عليه وسلم - صافيةً نقيةً، فاستنارت بها نفوسهم، وازداد بها إيمانهم.
فكانوا كما قال الله عزوجل: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} (الأنعام: 122) ، وكان منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - واضحا في تلقي العقيدة، والتسليم والانقياد لكل ما جاء به الشرع، ، كيف لا يكونوا كذلك؟ والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لهم طريق العصمة من الضلال.
فقال: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله) رواه مسلم، وزاد مالك في الموطأ: (وسنتي) ، ووضّح لهم خطر الابتداع في الدين فقال: (وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه أحمد و أبو داود، فلذلك لم يكونوا ليخوضوا فيما ليس لهم به علم.
بل كانوا يبادرون إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما استشكل عليهم، كما سأل ذلك الصحابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تُخلق أم نسجاً تُنسج؟ " فرد عليه قائلاً: (لا بل تشقّق عنها ثمر الجنة) رواه أحمد، فبهذا المنهج الواضح، وبهذه العقيدة الراسخة مكّن الله لهم في الأرض، ورضي عنهم.
وقضى الله بحكمته أن يزرع الشيطان بذرته في نفسٍ خبيثةٍ حملت أولى نوازع الهوى والبدعة، ألا وهو "ذو الخويصرة" الذي اعترض على قسمة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المال الذي بعث به علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إليه من اليمن فقال هذا الرجل: " إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ".
فلما انصرف الرجل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - محذراً أمته من فتنته: (دعوه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) رواه البخاري و مسلم، فكان هذا الرجل أول بذور الفتنة، وسلف الخوارج الذين اقتفوا أثره، وترسموا خطاه.
أما في عصر الخلافة الراشدة فكانت العقيدة الصحيحة سائدة بين المسلمين، لم تشُبها شائبةٌ، سوى مواقف فردية من بعض الجهلة تصدى لها عمر بحزم، كموقفه مع صبيغ ذلك الفتى الذي قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد أعد له أعواد النخل.
فقال من أنت؟ قال أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر يضربه حتى تاب من مقولته، وكان موقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حازما، لأنه يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حذّر أمته من هذا المسلك فقال: (إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم) رواه البخاري و مسلم.
ثم ظهرت الخوارج في زمن علي - رضي الله عنه - واستفحل خطرهم، حيث أخرجوا من دائرة الدين كل من ارتكب كبيرة من الكبائر، وخرجوا على إمام المسلمين وجماعتهم واستحلوا قتالهم، فقام علي - رضي الله عنه - ومن معه من الصحابة فحاربوا هذا الفكر الهدّام.
وبينما انشغل المسلمون بهذه المصيبة ظهرت بدعة التشيع، والذي تولّى كِبرها: "عبدالله بن سبأ اليهودي"، فقال بعصمة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وآل البيت، بل تعدى ذلك إلى تأليهه، وسب الصحابة علناً، فتصدى لهذه الظاهرة علي - رضي الله عنه - وقمعها فظلت مغمورة.
وفي أواخر عهد الصحابة ظهرت بدعة القدرية، الذين يكذبون بالقدر، وبما سبق في اللوح المحفوظ، فأنكروا أن يكون الله تعالى قد قدّر أفعال العباد، أو شاء وقوعها منهم، وجاء التابعون يسألون عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - عن هؤلاء القوم فقال عبد الله: " إذا لقيتم أولئك فأخبروهم أني بريء منهم وأنهم مني براء.
والذي يحلف به عبد الله بن عمر، لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره " رواه مسلم، فاستبان الحق، وزهق الباطل، واستبصرت الأمة.
أما فتنة المرجئة، فقد ظهرت في نهايات القرن الأول، حيث خرجوا على الناس بفكرهم الباطل، فقالوا: " إن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وبالتالي فإن إيمان المسلم العاصي كإيمان أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - "، فجعلوا التصديق القلبي مجرداً من عمل الأركان.
وبالتالي فإن العمل ليس له تأثير في زيادة الإيمان ونقصه، فكان من آثار هذا الفكر الخطير تزهيد الناس في العمل والتقليل من أهميته، ولا يزال لهذا الانحراف آثار عميقة الجذور امتدت إلى عصرنا هذا.
وفي القرن الثاني اتسعت رقعة البدع، وانفرط العقد، فظهرت عدة أفكار ملوّثة ابتعدت كل البعد عن المنهج الربّاني، فظهرت الجهميّة الذين نفوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقالت: إن العاصي مجبور على فعل معصيته، وظهر من يقول بقول المعتزلة، وهم الذين يجعلون مرتكب الكبيرة في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا يُطلق عليه أنه مسلم أو كافر، بل هو في منزلةٍ بينهما، فتصدّى سلفنا الصالح، وأئمة الهدى لهذا الزحف الخبيث، حتى انبلج الحق لكل ذي بصيرة.
وفي القرن الثالث الهجري، تطورت تلك الفرق واتسعت، وكثر أتباعها ومنظروها، وزاد الأمر سوءا ما انفتح على الأمة من باب فتنة عظيمة، تولّى كبرها الخليفة المأمون، وكان ذلك لما قام بمهادنة بعض ملوك النصارى، فطلب منهم خزانة كتب اليونان والفلاسفة التي عندهم، فاستشار ملك اليونان من عنده من أحبار النصارى فقال أحدهم: " جهّزها إليهم، فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها ".
وصدق فيما قال، فما إن استلم الخليفة المأمون تلك الكتب، وعمل على ترجمتها وتعريبها، حتى دخل على الناس شر مستطير، وانشغل الناس بها عن الوحي.
ولم يكتف المأمون بما فعل فامتحن الناس في قضيّة خلق القرآن، وتلاه الخليفة المعتصم في ذلك، وحدثت الفتن بين المسلمين، وتطاول الخلفاء على أئمة الدين، وظهر الاختلاف في الآراء، ومال أهل الزيغ إلى البدع والأهواء.
ولا تزال الفتن تتوالى على مر العصور، والمعركة محتدمة بين الحق والباطل، لكن الله سبحانه وتعالى يهيء في كل زمان علماء ربانيّين يقفون أمام هذا السيل العارم، فيستبين بهم الحق، ويهتدي بهم الخلق.
وما ذاك إلا لتبقى العقيدة صافية نقية كما كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا من الضلال بعد الهدى، وأن يميتنا على الحق المبين. الانحراف الفكري، الذي قاد إلى استحلال الحرمات، والوقوف مع الباطل من حيث يظن صاحبه أنه على الحق.
المصدر: موقع إسلام ويب